حوكمة التّكوين المهني في الجزائر[1]
الكاتب: أحمد بلقمري.
لقد عملت الحكومة الجزائرية على إعطاء أهميّة كبيرة لقطاع التكوين والتعليم المهنيين لاسيما منذ سنّ القانون التوجيهي للقطاع سنة2008[2]، حيث تمّ إقرار تعديلات أساسية تهدف إلى بناء نظام يخضع لمنطق الطّلب الاقتصادي والاجتماعي. فهناك إجراءات حديثة وسّعت من الأعمال الموجّهة للعمل من أجل تشغيل الشّباب والمرأة، وبصفة خاصة عبر التكوين عن طريق التمهين. وقد صدر في هذا الشّأن تقرير مهمّ سنة 2014 للمنظّمة الأوربية للتكوين في إطار مشروع الحوكمة للتّشغيل في المتوسط، مموّل من طرف الاتّحاد الأوربي، وسميّ بـ"خريطة حوكمة التكوين المهني في الجزائر". هذا التّقرير وصف، حلّل وقيّم حوكمة نظام قطاع التكوين والتعليم المهنيين الجزائري، وذلك في أبعاده المختلفة المتعلفّة بالتسيير والتخطيط، التمويل، وتخصيص الموارد وضمان الجودة.
وقد جاء التّقرير في اثنين وثلاثين صفحة، بدءا بمخلّص تحليلي قدّم نظرة سريعة وعميقة لقطاع التكوين والتعليم المهنيين، ثمّ مقدّمة تناولت أهمّ النقاط التي ركّز عليها التقرير، وبعدها عبر ثلاثة محاور رئيسيّة(خريطة حوكمة التكوين والتعليم المهنيين-النقاط المفاتيح، التّحليل والتوصيات) تمّ تشريح واقع وآفاق قطاع يعتبر أحد مفاتيح التنمية في البلد.
بنى تحتية عملاقة؛ بحثا عن الجودة والمواءمة مع سوق الشّغل..
يشكّل التكوين والتعليم المهنيين أحد الدّعامات الأساسيّة الثلاث للمنظومة التربوية الجزائرية بالإضافة إلى التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي، ويستهدف الرّد على الطّلب الاقتصادي والاجتماعي؛ وذلك بضمان تأهيل يد عاملة مؤهلة تستجيب لمتطلّبات سوق الشّغل، وكذا ضمان التكوين، تحويل الاختصاص المهني، الإتقان، ورسكلة العمّال عن طريق التكوين المتواصل. وتستقبل شبكة المؤسّسات التكوينية التي يزيد عددها عن 1200 مؤسّسة حوالي 500000 متكوّن سنويّا بين متربّص وممتهن، مقابل 8,5 مليون تلميذ في قطاع التربية الوطنية، وحوالي 1,5 مليون طالب في التعليم العالي والبحث العلمي. وتسعى الوصاية إلى دعم نمط التكوين عن طريق التمهين، وبلوغ هدف استقبال 75% من المتكوّنين في هذا النمط مقابل 50% من التعداد الإجمالي حاليا. وعلى الرّغم من أنّ النّسبة تعتبر الأكبر على الإطلاق في المنطقة، إلاّ أنّ مؤشّر التنافسية العام للمنتدى الاقتصادي العالمي لسنة 2013 صنّف الجزائر في المرتبة 101 عالميا من بين 148 دولة فيما يخصّ نظام التعليم العالي والتكوين[3]. هذه النتائج تنرجم الأداءات المتضادة، كما أنّها تعكس عدم مواءمة تكوين القوى العاملة، وهو ما يشكّل إحدى الإشكاليّات التّي تؤرّق المُستثمرين في البلد. كما يعتبر نشاط سوق الشّغل أقلّ فعالية حيث تحتل الجزائر المرتبة 147 عالميا، وفيما يخصّ مشاركة المرأة تبقى مرتبة الجزائر 148 عالميا، وهي نتائج بعيدة كليّا عن الآمال، وتستدعي جهودا جبّارة لتحسين هذا الوضع.
ضرورة إدخال تحسينات جديدة على نظام التكوين والتعليم المهنيين، وتحرير المبادرات..
حسب معطيات الدّيوان الوطني للإحصاء(ONS) لسنة 2012، فإنّ حجم النّشاط بالنّسبة للفئة البالغة من العمر 15 سنة فما فوق بلغ 43,2% مشكّلا ارتفاعا محسوسا مقارنة بسنة 2010 أين بلغ نسبة 41,7%. كما أنّ نسبة البطالة عرفت انخفاضا ملحوظا قدّر بـ 9,8% سنة 2013، مقابل 12 و10 % سنتي 2012 و 2011 على التوالي؛إلاّ أنّ هذه الإحصائيات لا تعطينا بدقّة حجم البطالة بالنّسبة لخريجي قطاع التكوين والتعليم المهنيين، وهو ما لا يسمح لنا بتقييم وضعية هؤلاء بالنّظر لاندماجهم من عدمه في سوق الشّغل.
ووفقا لتحليلات (SWOT)[4] وتبادلات اللجنة الوطنية لمشروع الحوكمة من أجل التشغيل في منطقة المتوسط(GEMM) من الأسباب الرّئيسية لوضعية البطالة عدم المواءمة بين التكوين واحتياجات سوق الشّغل، والعوامل الرّئيسية هي نقص المعرفة وتحليل الاحتياجات، ضعف تكيّف نظام التكوين المهني مع الاحتياجات المعبّر عنها من جهة سوق الشّغل، وبصفة خاصة ضعف وجود المؤسّسة في نظام التكوين، والنقص المسجّل في الاتّصال وتوجيه الشّباب بحثا عن الشّغل.
من أجل ذلك وجب إدخال تحسينات جديدة على الجودة والمواءمة للنظام التربوي والتكوين المهني بصفة خاصّة، كما ينبغي أن تكون حوكمة نظام التكوين والتعليم المهنيين قادرة على استيعاب هذه التحسينات.
وقد جاء في التّقرير أنّ جهود الدّولة الدّاعمة لتطوير قطاع التكوين والتعليم المهنيين عن طريق مركزية القرار لم تترك مكانا لمبادرة المؤسّسات، وحتّى للمديريّات الولائية للتكوين والتعليم المهنيين، وهو ما خنق نوعا ما أداء المؤسّسات محليّا وجعلها لا تنفتح بالشكّل اللازم على محيطها الاقتصادي والاجتماعي على نحو يجعل أدائها أكثر فاعلية؛ فعلى الرّغم من تعدّد الأجهزة الموجّهة للشّباب والمرأة إلاّ أنّها لا تستجيب بشكل كافي لطموحات الجمهور الواسع، أمّا التكوين المتواصل فهو لا يكاد يمسّ المُؤسّسات الصّغيرة والمتوسّطة.
جهود معتبرة في التمويل وتخصيص الموارد..
لقد استفادت المؤسّسات التكوينية من دعم مالي معتبر من سنة لأخرى، حيث سعت الحكومة سنة 2012 إلى بلوغ حجم إنفاق على قطاع التكوين والتعليم المهنيين يصل إلى 8% من الناتج الدّاخلي الخام، مقابل 3 إلى 4,3 % سنة 2007. وقد رصدت الحكومة للوزارة الوصية حوالي 49 مليار دينار جزائري سنة2014، وهذا لدعم شبكة المؤسّسات التكوينية، وكذا الزيادة في أجور العاملين بالقطاع. وتخصّص حوالي 60% من الميزانية لنشاط المؤسّسات مقابل 40% ترصد للاستثمار والتجهيزات والبنى التحتية؛ لكن النفقات الحقيقية للمؤسّسات تبقى غير محدّدة بدقّة، ويبدو أنّها ستتطوّر في المستقبل بالنّظر إلى سوق التكوين المتواصل الذّي يشهد نموّا معتبرا.
أهميّة العمل على تحديد رؤية واضحة للتكوين والتعليم المهنيين باتّجاه التكوين مدى الحياة
إنّ نظام التكوين والتعليم المهنيين الحالي يعاني من خلل في النّشاط، فعلى الرّغم من بعض المبادرات بين الحين والآخر إلاّ أنّ الحاجة إلى رؤية واستراتيجية واضحة للعمل على المدى القصير، المتوسّط والبعيد سيمكّن صنّاع القرار من تجاوز الصّعوبات ورفع تحدّي التكوين المتفاعل مع الشّغل، التشّغيل، التماسك الاجتماعي، التنمية المستديمة، المواطنة، والإزدهار الشّخصي.
إنّ الاستراتيجية المتوقّعة ينبغي أن تؤسّس على هذه الرّؤية وذلك لتحديد الأعمال الواجب القيام بها وأشكال الحوكمة الأكثر مواءمة لهذه الاستراتيجية في ظلّ عالم متغيّر باستمرار وعولمة مهيمنة.
[1] تقرير في إطار مشروع الحوكمة للتّشغيل في المتوسط، مموّل من طرف الاتّحاد الأوربي. المنظّمة الأوربية للتكوين 2014.
[2] نظّمت وزارة التكوين والتعليم المهنيين أيّام 03، 04 و05 مارس 2015 الجلسات الوطنية الثانية للتكوين والتعليم المهنيين تمهيدا لإصدار القانون التوجيهي الجديد للقطاع.
[3] تأتي الجزائر بعد كلّ من تركيا(44)، الأردن(68)، المغرب(77)، تونس(83)، وقبل لبنان(103) ومصر(118).
[4] SWOT: هو أسلوب تحليلي لمعرفة نقاط الضعف ونقاط القوة في المنظمة.