المهن العليا والتغيّر الاجتماعي في المشرق العربي: دراسة في سوسيولوجيا المهن. إليزابت لونغنيس

المهن العليا والتغيّر الاجتماعي في المشرق العربي: دراسة في سوسيولوجيا المهن. إليزابت لونغنيس

خلاصة

إنّ أهمّية النخب الفنية والمهن الحديثة والطبقات الوسطى الجديدة في عملية العصرنة  في العالم العربي قد درست مطوّلا. الأعمال التي تطرّقت إلى مهنةٍ بعينها أكثر ندرةً.

انطلاقاً من المهندسين السوريين وبتوسيع حقل ملاحظتي ليشمل في آنٍ معاً المهن القريبة وبلداناً مجاورة،  المقولات  أو المفاهيم  التي  أخضعتها للنقد هي مقولات ” الطبقة”   (الوسطى) و “النخبة”  و “المهنة”. هل يمكن القول إنّ كلاً منها يحيل إلى رؤيةٍ للمجتمع متمايزةٍ بوضوح؟ إذا كانت فكرة الطبقة تستعيد فكرة صراع الطبقات والثورة، فإنّ نظريات العصرنة تمنح "الطبقات الوسطى الجديدة[1] " دوراً أساسياً في عملية عصرنةٍ تستدعي في حقيقة الأمر "النخب". أمّا المهن العليا، وإذا ما فكّرنا في أسلوب رؤيتها لنفسها واللجوء إليها في العقود الأولى بعد الاستقلال، فقد تلازمت في البداية مع نموذج مرتبط بالدولة قبل أن تتحوّل مؤخّراً إلى ليبراليةٍ هي نفسها متعدّدة المعاني.

وبدلاً من أن تحيل هذه المقولات إلى رؤيةٍ للمجتمع، ألا تحيل بالفعل إلى رؤيةٍ للتغيّر الاجتماعي؟ صحيحٌ أنّ التحليل من حيث الطبقات الاجتماعية يجتمع مع فكرة صراع الطبقات، لكن أليست هنالك علاقةٌ  بين فكرة  "الطبقات الاجتماعية" وبين مقاربةٍ للحراك الاجتماعي، في حين أنّ الحديث عن "النخبة" يعني نسب مسؤولية التغيّر (العصرنة) لأقلّيةٍ مستنيرة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلطة السياسية؟ أخيراً، تفضيل المقاربة عبر "المهن" يعني وضع قيم العمل والفعل والفعالية في المركز.

يبقى  التساؤل عن راهنية هذه المقاربات ليس فقط من زاوية الإشكاليات التي تعلي شأنها، بل كذلك من زاوية الخصائص المميزة للسياق التاريخي، والسعي لإلقاء الضوء على النقاط العمياء المحتملة التي يمكن أن تخفيها أو الالتباسات التي يمكن أن تؤدّي إليها.

المهن العليا والتغيّر الاجتماعي في المشرق العربي دراسة في سوسيولوجيا المهن

PROFESSIONS SUPÉRIEURES ET CHANGEMENT SOCIAL AU PROCHE-ORIENT ARABE. UNE ÉTUDE DE SOCIOLOGIE DES PROFESSIONS

E Longuenesse

هدف هذه المداخلة تقديم لمحة موجزة  لأبحاثي في مجال دراسة المهن العليا وهي تشكل الجزء الاكبر لما يسمى الطبقات الوسطى و هذا في منظور  يأخذ في عين الاعتبار البعد التاريخي.

ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر،  قدّمت بعض المهن العليا الحديثة عدداً من قادة الحركات الوطنية و القومية: هم في البداية، وبأعدادٍ كبيرة، المحامون  ثم الأطباء . وظهر المهندسون  بعد الاستقلال، في طور بناءٍ  مشروع التنمية . لقد وُصف هؤلاء  بأنّهم "نخبٌ معصرِنة"، ثمّ بكونهم جزءاً من تلك "الطبقات الوسطى الجديدة"، الموصوفة بأنّها عصريّةٌ وحاملةٌ للتغيير وقادرةٌ على إخراج بلادها من "التخلّف" الذي عانت منه في بداية الخروج من حقبة الاستعمار الأجنبيّ.

في سبعينات القرن العشرين، كان الدور المركزيّ لـ" الطبقات الوسطى الجديدة" في سيرورة العصرنة جزءاً من تلك الأمور البدهية التي تشاطرها معظم المحلّلين والباحثين، مهما كانت تبايناتهم في تقدير طرائق تلك العصرنة و دور الدولة أو القطاع الخاص. لقد حملت تلك الطبقاتُ الوسطى الدولةَ التنمويّةَ، التسلطيّة في معظم الأحيان، وهي التي حاربت غداة الاستقلال وجهاءَ المدن القدامى المتّهمين بالتواطؤ مع المتسعمِر وبمصادرة السلطة لصالحهم، ولاسيّما بعجزهم عن تطوير الاقتصاد.و كان مشروع تلك الطبقات الوسطى يتمثّل في وضع حدٍّ لهذه المصادرة وفي وضع موارد البلاد أخيراً في خدمة الشعب.

لكن بدءاً من الثمانينات، أدّى توسيع  التعليم العالي في مصر وسوريا إلى عملية انحدارٍ في المنزلة الاجتماعية للأجيال الجديدة من المجازين. سرعان ما اصبحت هذه المهن عينها الحاملة لمشروع العصرنة، رأس حربة اعتراضٍ ينسب نفسه إلى الإسلام، في حين تحوّلت منظّماتها النقابيّة والمهنيّة إلى موقع مواجهةٍ مع السلطة. أصبح فشل مشاريع التنمية الذي تعدّ هذه الحركات أحد تعبيراته يضع في مقدّمة انشغالات الباحثين مسألة تطوّر الأنظمة والديمقراطيّة. وبهذه الصفة استثارت "النقابات المهنيّة" اهتماماً متزايداً ، خاصة في مصر و الاردن ، بوصفها ممثّلةً جديدةً لـ"المجتمع المدني"، أكثر ممّا بوصفها منظّماتٍ تمثّل مصالح مجموعاتٍ معيّنة.

إذاً، انطلاقاً من تساؤلٍ يخصّ "الفاعلين" والفئات الاجتماعية الحاملة لهذا المشروع ، واجهتني  مسألة الدولة ودورها في بروز تلك المهن الحديثة، ثمّ دورها في الاعتراف بها. إنّ دراسة التنظيمات المهنية، النقابات والجمعيات ـ بوصفها تمثّل  مجموعةٍ مهنيّةٍ ما  في هذا الحدّ المشترك بين المجتمع والدولة ـ قد فرضت نفسها لفهم العلاقة التي تقيمها هذه الجموعة بالسلطات العامّة عبر التنظيم المهنيّ الذي تتزوّد به.

كان علماء السياسة هم الذين يعالجون تقليدياً  موضوع "النقابات المهنية". وتظهر هذه الهيمنة في أعمال بعض الباحثين الاميريكيين مثل  دونالد ريدDonald Reid وروبرت سبيرنغبورغRobert Springborg وكليمان مورClement H. Moore  ثم المصريين مصطفى كامل السيد و اماني القنديل.

إنما  من وجهة نظر علم الاجتماع، افترضتُ أنّ الديناميات الاجتماعية يمكن وينبغي النظر إليها لذاتها (حتّى إن كان فصلها عن السياسي مستحيلاً)، فهي لا تصنَع على يد السياسي كما أنّ العكس خاطئ، والمجموعات المعبّأة والمنظمة في هذه النقابات المهنية هي بدايةً بنىً اجتماعية تاريخية تعبّر أو تكشف عن رهاناتٍ اجتماعيةٍ كان[rb1] لابدّ من السعي لفهم طبيعتها، من دون اختزالها في مجرّد استغلالٍ يقوم به الفاعلين السياسين او الدولة.

لكن ضمن مسار ابحاثي  تلاشت تدريجيا مسألة الصلة بالعامل السياسي، المهيمنة في  البداية، حيث اندرج تأمّلي  بصورةٍ أقوى في إشكاليةٍ تنتمي إلى حقل « سوسيولوجيا المهن »، عبر مسألة "المهننة" والعلاقة بالسوق.

وبالفعل، الفرضية التي أقترحها، في المرحلة الحالية  ـ هي فرضية عملية استقلالية الحقل المهني عن حقولٍ أخرى في الفضاء الاجتماعي إثر ضعف قبضة الدولة على الاقتصاد والضغط المتزايد الذي يمارسه السوق. إنّها استقلاليةٌ مفارِقةٌ ومتناقضة، نظراً لأنّها تترافق بصعود النموذج الإدراكي (paradigme ) "الليبرالي"، ونموذج مهني يفقد كلّ أشكال التضامن والتحكّم الجماعي اعتبارها بسبب بروز البعد الفردي في المنافسة ـ مع تعرّضها في الآن ذاته لنزوعاتٍ معاكسةٍ وللمواجهة بين ضروب المنطق "الجماعاتية" والفئوية والمنطق المهني.

على كلّ حال، لاشكّ في أنّ انفتاح الأسواق والإصلاحات الاقتصادية التي فرضها تطوّر التبادل الحرّ وخصخصة الشركات العامة والوجود المتزايد للشركات متعدّدة القومية، بالترافق مع اللجوء إلى المساعدة الأجنبية، تزعزع  أسس نظامٍ اجتماعيٍّ سياسيٍّ بنته مركزية الدولة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. ويمسّ تزعزعُ سوق العمل الناجم من تلك الزعزعة المجازين الجامعيين على نحوٍ خاص، الذين ارتفع عددهم ارتفاعاً هائلا في غضون عقدين أو ثلاثة عقود.

تتطوّر شروط التأهيل، وتتفاقم التمايزات الداخلية ويجب على الاستراتيجيات المهنية التكيّف. ُيخلي المهندسون "البنّاؤون" العاملون في الدولة ، مكانهم لرجال الأعمال والمقاولين والإداريين وخبراء المحاسبة. و لقد أمست "المهننة" خاضعةً لمنطق السوق أكثر ممّا هي خاضعةٌ لمشروع تطويرٍ للموارد البشرية  توجّهه الدولة توجيهاً إرادوياً.

في حقل البحث، يظهر وكأنّ هذا الانقلاب له مفعولٌ يكشف ضروب المنطق المهني المطبّقة، ويسمح بطرح مسألة[rb2] "النماذج المهنية" على نحوٍ أكثر دقّةً، ومسألة وزن كلٍّ من التاريخ والتأثيرات الأجنبية والضغوط الاقتصادية والسياسية ويحضّ الباحث الاجتماعي  على التطرّق إلى مسائل لطالما تُركت لالتحليل السياسي.

وعبر ذلك، ربّما نستطيع اقتراح مساهمةٍ في التأمّل بشروط نشوء وتطوّر علم اجتماعٍ خارج العالم الصناعي المتطوّر. نحن نعلم أنّ ولادة علم الاجتماع قد تزامنت مع نشوء "المسألة الاجتماعية"، في سياق المجتمعات الصناعية التي تتميّز باستقلالية السوق وولادة "مجتمعٍ مدني"، متمايزٍ عن "المجتمع السياسي" ومستقلٍّ عنه. ما بالك إذاً بالشروط التاريخية لتطبيق تأمّلٍ سوسيولوجيٍّ في بلدانٍ لم تشهد الثورة الصناعية، الرأسمالية فيها مستوردة، مثلما هو مستوردٌ نموذج الدولة ـ الأمّة؟

بعد نضالات التحرّر الوطني تحول حكّام الدول التي نجمت من هذه  النضالات الى  قادة مشروعٍ إرادويٍّ للتنمية، وأخضع الاقتصاد والمجتمع كلاهما للسياسة. يصعب إذاً إبراز حقول معارف نوعية مستقلّةٍ بعضها عن بعض. لا وجود لمجتمعٍ مدني ـ وبالتالي لا وجود لاستقلاليةٍ مهنية. إنّ صياغة المجتمع للمشكلات وطريقة عرضها تفسّران ضعف العلوم الاجتماعية في عددٍ من البلدان التي خضعت في الماضي للاستعمار بقدر يفسّره ضغط الأنظمة الاستبدادية  . ألم يقدّم المستعمِر نفسُه المثال حين أخضع كلّ تطوّرٍ لمصالحه الخاصّة، كابحاً أو معيقاً نشوء منظّماتٍ مستقلّةٍ تمثّل مصالح الفئات الاجتماعية في إطار مجتمعها؟ وعلى العكس من ذلك، تعدّ مصر أحد البلدان النادرة التي تطوّر فيها فكرٌ يتعلّق بالاجتماعي، وذلك لأنّ الاستعمار المباشر كان فيها الأقصر زمناً، وبدأت عملية تحديثٍ فيها قبل الاحتلال الأجنبي، وتطوّرت رأسماليةٌ وطنيةٌ منذ عشرينات القرن العشرين.

على صعيدٍ آخر، ما السبيل إلى الحديث عن العمل والمهنة من دون مساءلة ظروف تشكّل انماط  الإنتاج وتقسيم العمل، وكذلك تصوّرات القيم المتصّلة بهما وأنظمتهما؟ هذا ما فهمه فهماً جيّداً مؤسّسو علم الاجتماع، من إميل دوركهايم   Emile Durkheim  بصدد كتابه "عن تقسيم العمل الاجتماعي" إلى ماكس فيبر  Max Weber في كتابه "الاقتصاد والمجتمع".

وتباينت لاحقاً المدارس  الاجتماعية في تصوّرها لتنظيم  العمل ولأشكال التضامن المترافقة معه. وهذا ملموسٌ على وجه الخصوص في دراسة المهن العليا، حيث ترافق تنوّع التيارات النظرية بتنوّع الموروث الاجتماعي الثقافي والنماذج المسيطرة في مختلف السياقات الوطنية.

لكن، لئن كانت سوسيولوجيا المهن الأنغلوأمريكية، إذا اقتصرنا عليها، قد استطاعت إثارة سجالاتٍ نظرية حادّة، فلم تتطرّق تلك السجالات أبداً إلى هذه المركزية للعمل، التي عدَّت أمراً بديهياً، بل فقط إلى أسلوب[rb3] تناوله وإلى معنى ورهانات مسارات "المهننة".

إنّ التعريف الوظيفي للمهن بمجموعةٍ من السمات كالتنظيم والتأهيل التخصّصي ووجود منظّمةٍ مهنية والاحتكار وآداب مهنة، إلخ. يحيل إلى حقيقةٍ تاريخيةٍ ومؤسّساتية أمريكية، كما أنّ تعبئته بصدد حالة مصر (على يد علماء السياسة الأمريكيين) قد  يفلِت مسائل أساسية.  وربّما كان اندرو  أبوت  Andrew Abbott المؤلّف الذي مضي أبعد من غيره في وضع تفكيره النظري ضمن إطارٍ عامّ. بالنسبة إليه، "تتمثّل المسألة الأولى في معرفة كيف تهيكل المجتمعات الكفاءةَ"  (how societies structure expertise).  وتوجد دروبٌ ممكنةٌ عديدة، وينبغي التساؤل لماذا تحتاج مجتمعاتٌ معيّنة اللجوء إلى "خبراء" اختصاصيين طوال وجودها.  و لإسناد مقولته، يلاحظ[rb4] آبوت أنّ الصين قد دامت آلاف السنين من دون معارف تخصصية، وأنّنا إذا كنّا نلجأ إلى الاحترافية   (professionnalisme)، فلأنّ هيكلة السوق لنشاطاتنا تحابي نمط تشغيلٍ مبنياً على قدراتٍ وموارد شخصية.

لا شك  أنّ التخصّص المهني واللجوء إلى "خبراء" يحتكرون الكفاءات الفنّية التخصّصية، المبنية على جسمٍ من المعارف النظرية المجرّدة، يعودان في الإمبراطورية العثمانية إلى القرن الثامن عشر على الأقل، إن لم يكن إلى أبعد من ذلك الوقت. الا ان عملهم   لم يكن خاضعاً لمنطق السوق.  وفكرة المهنة والخبرة كانت تحيل إلى علاقةٍ بالدولة وإلى منظومة قيمٍ مغايرتين لما نعرفه في أوروبا الصناعية.

 لذالك يمثّل بحثٌ يتطرّق إلى المهن العليا في البلدان العربية  تحدّياً قوياً للباحث الاجتماعي  اذ  يتطرّق هذا العمل إلى بلدانٍ ضعيفة التصنيع، مرّ تاريخها في القرنين المنصرمين بمراحل مغايرةٍ تماماً لما مرّت به البلدان الصناعية (من دون إغفال حقبة الاستعمار) . وهو تحدٍّ لا تمليه الاحتياطات المنهجية التي يفرضها فحسب، بل كذلك  الآفاق الإبيستيمولوجية الجديدة التي يمكن أن يفضي إليها.

إنّ دور  النخب الفنية والمهن الحديثة والطبقات الوسطى الجديدة في عملية العصرنة في الشرق الأوسط وفي العالم العربي قد درست مطوّلاً. لقد التُقط كذلك الوزن الرمزي للشهادة العلمية في عددٍ من المجتمعات ضعيفة التصنيع.  أنّني أظهرت  كيف يمكن أن تكون آثار تعميم التعليم متناقضة  مع "المهننة"، وذلك وفق قِدم المهنة ومقدار المكانة التي تربَط بها. ومن دون تقديم إجابةٍ نهائيةٍ على مسألة أسباب تأثير التيارات الإسلامية الراديكالية إلى هذا الحدّ أو ذلك، يبدو لي أنّنا أمام دربٍ للتفكير مفيدٍ في فهم عمليةٍ معقدة.

يمكن هنا أيضاً إعادة قراءة مسألة الفئوية  (corporatisme). الأطروحة التي أدافع عنها تنصّ على أنّه حتّى في حال وجود دولةٍ تسلّطية، تجعل من المنظمات الاجتماعية والمهنية والنقابية ، أدواتٍ للتحكّم، فهي لا تستطيع إلاّ أن تستند إلى ديناميةٍ موجودةٍ مسبقاً. هذه الدينامية هي إذاً ما ينبغي السعي إلى فهمه.

من وجهة النظر هذه، تكشف لنا الحالة اللبنانية استغلالاً للنقابات المهنية بوصفها وسيلةً للانطلاق في مسار سياسي، تندرج في نظامٍ تسيطر عليه الانتماءات الطائفية. ومن هنا تنبع أهمية  مفهوم "الفئوية الجماعاتية"(community based corporatism ) الذي اقترحه نزيه  أيوبي، وقرّبته إليزابيت بيكار(Elizabeth Picard) من "الفئوية القبَلية" التي طرحها الباحث الاجتماعي الكويتي خلدون النقيب، حين اقترح أن نرى في قوّة "الصلات الأوّلية" طابعاً متميّزاً قويّاً (لا بل خصيصةً) في آلية عمل المجتمعات العربية.

أنّ وجود مجموعات تضامنٍ محدّدة، تبنى على صلاتٍ أوّلية، يطرح بالفعل تحدّياً نظرياً  لدراسة المنظمات  النقابية والنزعات الفئوية، وأكثر من ذلك ديناميات المهننة، في سياق عودة النموذج الإدراكي الليبرالي بقوّة.

في هذا الصدد، لبنان مختبرٌ حقيقيٌّ، لكنّ كل بلدان المنطقة يظهر على نحوٍ خاصّ  التمفصل بين  العامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتغلغل ضروب المنطق الجماعاتية.

إنّ تحليل الأسواق المهنية، بتأثيرٍ من عوامل متعدّدة كالانفتاح الاقتصادي وارتفاع مستوى التعليم وتعدّد التخصصات وتأنيث بعض أقسام سوق العمل واللجوء المتزايد إلى يدٍ عاملةٍ أجنبية، يذكّرنا بأنّ المنطقة ليست خارج التطوّرات العالمية.

كيف تتمفصل في قصص الأفراد وإعادة تشكيل المجموعات إكراهات السوق وتلك التي تفرضها مجموعات التضامن؟ هل ينبغي أن نعدّ هذه المجموعات  "عقباتٍ" أمام تنمية الكفاءات، و عقلنة الاقتصاد واستقلالية المهن ؟  يبدو لي أنّه يجب أن نأخذ على محمل الجدّ فرضية التكاملٍ ممكنٍ بين النموذج  الجماعاتي والنموذج  الليبرالي.

اقترح الباحث القرنسي  بيير تريبييه (Pierre Tripier) تأسيس علم الاجتماع على التجاذبات بين ثلاثة النماذج إدراكية (paradigmes ) ، النموذج القومي والنموذج  الطبقي والنموذج  الفرداني.

بعد ذلك، تابع هو وكلود دوبار (Claude Dubar ) هذا التأمّل عبر اقتراحٍ مكمّلٍ يتضمّن ربط تلك النماذج الإدراكية السوسيولوجية بالأنماط المهنية المسجلة في ثلاثة تقاليد تاريخية (الفرنسية والالمانية والانكلواميريكية ). كان الاقتراح محفّزاً ويحثّ على مساءلة كيف يمكن أن تساهم الموروثات التاريخية في منح معنىً للبنى المهنية.  وبالأسلوب نفسه، نستطيع السعي إلى تتبّع ملامح معيّنة في تاريخ المجتمعات الإسلامية في المشرق العربي، عبرت القرون ودامت عبر الثورات السياسية،

فهل يمكننا  كذلك   أن نفترض تأثير دائم لنموذجٍ  ( فئويٍّ عثمانيٍّ)، في حين أنّ المهن التي ترمز إلى العصرنة تتشكّل إلى حدٍّ كبيرٍ بالقطيعة مع النظام العثماني وبتأثير نماذج أجنبية؟     او قد ينبغي إذاً طرح فرضية نموذجٍ استعماري؟  هذا ما يقترحه ترنس جونسن Terence Johnson ، حين يظهر أنّ تطوّر الجمعيات المهنية البريطانية في عصر الإمبراطورية لم يكن مرادفاً لنسخ نموذج الاستقلالية المهنية البريطانية، بل ترافق مع تعبئة المهنيين لخدمة  "البيروقراطيات الاستعمارية"، إما في إدارة السلطة الاستعمارية، أو في الشركات البريطانية، وهو ما يعاكس خطاب المهن عن نفسها بانها مستقلة. وقد سبق لي أن اقترحت فرضية وجود نموذجٍ (قومي فئوي  شعبوي)  في البلد الخاضع لهيمنة اقتصادية خارجية، يمكن أن تعدّ مصر مثاله النموذجي.

في سياق مختلفٍ قليلاً، يتحدّث شارل غاديا (Charles Gadea ) عن "مناهج منظّمةٍ  لوجهة نظر (...)، تتضامن مع رؤية لمجمل المجتمع" لوصف المقاربات الثلاثة، عبر التكنوقراطية أو الطبقات أوالمهن، وهو يظهِر كيف هيكلت هذه المقاربات حقل سوسيولوجيا "الكوادر" (les cadres ) في  فرنسا.

انطلاقاً من المهندسين السوريين وبتوسيع حقل ملاحظتي ليشمل في آنٍ معاً المهن القريبة وبلداناً مجاورة، المقولات  أو المفاهيم التي صادفتها وأخضعتها للنقد هي مقولات  "الطبقة" (الوسطى) و"النخة" و"المهنة".  فهل يمكن القول إنّ كلاً منها يحيل إلى رؤيةٍ للمجتمع متمايزةٍ بوضوح؟ إذا كانت فكرة الطبقة تستعيد فكرة الصراع الطبقي والثورة، فإنّ نظريات العصرنة تمنح  "الطبقات الوسطى الجديدة " دوراً أساسياً في عملية عصرنةٍ تستدعي في حقيقة الأمر "النخب". أمّا المهن، وإذا ما فكّرنا في أسلوب رؤيتها لنفسها واللجوء إليها في العقود الأولى بعد الاستقلال، فقد تلازمت في البداية مع النموذج المرتبط بالدولة قبل أن تتحوّل مؤخّراً إلى ليبراليةٍ هي نفسها متعدّدة المعاني.

وبدلاًمن أن يحيل إلى رؤيةٍ للمجتمع، ألا يحيل بالفعل إلى رؤيةٍ للتغيّر الاجتماعي؟ صحيحٌ أنّ التحليل من حيث الطبقات الاجتماعية يجتمع مع فكرة صراع الطبقات، لكن أليست هنالك علاقةٌ  بين "الطبقات الاجتماعية" وبين مقاربةٍ للحراك الاجتماعي، في حين أنّ الحديث عن "النخبة" يعني نسب مسؤولية التغيّر (العصرنة) لأقلّيةٍ مستنيرة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلطة السياسية؟ أخيراً، تفضيل المقاربة عبر "المهن" يعني وضع قيم العمل والفعل والفعالية في المركز – وهي قيم العصرنة واليبالية الاقتصادية في آن وحد.

يبقى إذاً التساؤل عن راهنية(relevance/pertinence) هذه المقاربات  من زاوية الخصائص المميزة للسياق التاريخي. يمكن من وجهة النظر هذه أن نعدّ الحالة اللبنانية مختبراً حقيقياً، لكنّ البلدان المجاورة، وعلى رأسها الأردن، تستثير أيضاً أسئلةً من النمط عينه. وبالفعل، يعادل الحديث عن الطبقة أو النخبة أو المهنة تفضيلَ منظور قراءةٍ للمجتمع وللتغيّر الاجتماعي، تستبعد مسألة تجزيئية (segmentation ) مجتمعات المشرق العربي ، وهي مسألةٌ مهيمنةٌ في أعمال العلوم الاجتماعية التي تتناول هذه المنطقة. ومن دون الوقوع في مطبّ إكساب سمةٍ الإثنيةٍ للمسائل السياسية والاجتماعية، ألا ينبغي الانتباه إلى وزن  هذه التصوّرات.

لئن كانت مجتمعات المشرق العربي هي مثل غيرها أسيرة  مفاعيل "العولمة"، لاسيّما بأبعادها الاقتصادية والمهنية معاً، يصعب إهمال عملية تقسيمٍ مفارقةٍ وصعود  الهويات الجماعاتية  بعد أن تمّ البرهان بشكلٍ كافٍ انها تترافق العولمة .

يتمّ النظر إلى المهننة  بصورةٍ عامّة  من زاوية تطوير الكفاءات بالصلة مع ارتفاع مستويات التأهيل والتخصّص، وتعزيز الهويات المهنية المترافق مع فكرة الكفاءة والفعالية. في هذا الإطار، تلعب المنظمات المهنية دوراً في ترقية مهنةٍ وكذلك في تعزيز القيم المتّصلة بها. لكن كيف تندرج هذه القيم في مجمل قيم مجتمعٍ بعينه؟ كيف تتفاعل نزاعات القيم والانتماءات والولاء؟ ماذا الذي تنبئنا به الصراعات على السلطة في الجمعيات المهنية واستغلالها في استراتيجية نفوذٍ ضمن الحقل السياسي وتراتبية القيم والانتماءات والولاءات في هذا المجتمع؟ لئن كان العمل يحتلّ في المجتمعات الأوروبية الليبرالية مكانةً مركزيةً في الحياة الاجتماعية ومنظومات القيم، فليس مؤكّداً أن تكون هذه هي الحال في الأماكن الأخرى: ربّما كان هذا أيضاً ما ينبغي ألاّ نغفل النظر إليه.

إلا  أن  هجرة  الشباب المتعلمين الذين يمثلون  الجيل الجديدمن المهنين المتفوقين قد يكون جواب ضمني لهذه المسألة.

أثناء العقود الثلاثة أو الاربعة الماضية، شهدت المنطقة انقلاباً من  نموذج تنموي للاقتصاد، الذي تأثّر بسياق الحرب الباردة، نحو نموذجٍ  يتأسس على العقيدة النيوليبرالية، يمنح الأولوية المطلقة لحريةٍ تحرك البضائع ورؤوس الأموال. لكنّ هذا الانقلاب تزامن مع تحوّلٍ عميقٍ في المجتمع، نجم من تطوّر المعارف والتعليم ووسائل الاتصال. وكانت المهن التي درستها ، من مهندسين واطباء ومحاسبين وفنيين، أوّل شهود هذا التحوّل، وهو تحوّلٌ لا يميّز هذه المنطقة من العالم، لكنّه يتجلّى فيها على نحوٍ نوعيٍّ، وفق التاريخ الخاصّ بكلّ بلد.

منذ عددٍ من السنوات، بدأت تظهر مفاعيل الانفتاح الاقتصادي وتطبيق السياسات النيوليبرالية، وإن بدرجاتٍ متباينة، في مجمل المنطقة. كانت مصر متقدّمةً على سوريا بأكثر من عشر سنوات، والأرجح أنّ سقوط النظام فيها بهذه السرعة لم يكن بمحض الصدفة. اليوم، يتجلّى الغليان السياسي بتصاعد الحركات المطلبية وإعادة النظر في احتكار النقابات وتجديد أشكال التشارك.

في مصر، بدأت جمعياتٌ مستقلّةٌ تبصر النور في عالم المهن العليا منذ أواخر التسعينات. وفي سوريا نفسها، يجري الحديث عن تأسيس جمعياتٍ مهنيةٍ مستقلة. غير أنّ هذه التغيّرات لن تنقص من التوترات والاحتجاجات الجديدة التي تمسّ تعريف دور هذه المهن في الاقتصاد والمجتمع بقدر ما تمسّ مهامها وامتيازاتها. إذ خلف التغيرات السياسية، اهتزّت أسس تنظيم المجتمعات عينها، عبر تطوّر المعارف والتحوّلات في أساليب العيش والعمل.

  • لتحميل الملف البحثي كاملا، يرجى الضغط على الرابط التالي: http://exe.io/aL05IxMQ

المراجع

[1] [2] [3] [4] [5] Ayubi (Nazih), Overstating the Arab State, Londres, New-York, IB Tauris, 1995, 514 p.

Abbott (Andrew), The System of Professions, An Essay on the Division of Expert Labor,

The University of Chicago Press, 1988.

Dubar (Claude), Tripier (Pierre), Sociologie des professions, 1998, Paris, Armand Colin, 256 p.

Durkheim (Emile), De la division du travail social, Paris, PUF, 1967 [1893].

Hanafi (Sari), La Syrie des ingénieurs, Paris, Karthala, 1997.

Johnson (Terence), « The State and the Professions: peculiarities of the British », in A. Giddens & J.  (ed.), Social Class and the Division of Labour, Londres, Cambridge University Press, 1982.

Longuenesse (Elisabeth) (dir.), Bâtisseurs et bureaucrates, Ingénieurs et sociétés au Maghreb et au Moyen-Orient, Lyon, 1990.

Longuenesse (Elisabeth), Professions et société au Proche-Orient, Déclin des élites, crise des classes moyennes, Rennes, Presses Universitaires de Rennes, 2006.

Picard (Elizabeth), « Les liens primordiaux, vecteurs de dynamiques politique », in Politique du monde arabe, Paris, Armand Colin, 2006.

Tripier (Pierre), Du travail à l'emploi, Paradigmes, ideologies, interactions, Presses de l'Université de Bruxelles, 1991.

Weber (Max), Economie et société, Plon, 2 vol., 1992 [1922]


أبو رمان (حسين)، "النقابات المهنية"، ورد في: المجتمع المدني والمجال العام في مدينة عمّان، كتاب جماعي، الأردن الجديد، عمّان، ١٩٩٩.

السيد (مصطفى كامل)، المجتمع والسياسة في مصر، دور جماعات المصالح في النظام السياسي المصري، القاهرة، دار المستقبل العربي، ١٩٨٣.

القنديل (أماني)، الدور السياسي لجماعات المصالح في مصر، دراسة حال نقابة الأطباء، ١٩٨٤-١٩٩٥، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، ١٩٩٦.

لونغنيس (اليزابت)، ازمة  الطبقات الوسطى في المشرق العربي، المهن العليا و دورها في التغيير الاجتماعي،  الشركة العالمية للكتاب، بيروت،  ٢٠١١.


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة